نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
المملكة وثوابت القضية الفلسطينية: التزام تاريخي ورؤية استراتيجية - صوت العرب, اليوم الخميس 6 مارس 2025 12:55 صباحاً
منذ عام 1947م، حين رفضت الدول العربية خطة تقسيم فلسطين الصادرة عن الأمم المتحدة بموجب القرار 181، كانت المملكة من أوائل الدول التي وقفت إلى جانب الحق الفلسطيني. في قمة اللاءات الثلاثة بالخرطوم عام 1967م، تبنّى الموقف العربي مبدأ «لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض»، وهو النهج الذي التزمت به السعودية طوال العقود اللاحقة، حيث دعمت القضية سياسيا وماليا ودبلوماسيا، مؤكدة أن أي حل يجب أن يستند إلى قرارات مجلس الأمن، خاصة 242 و338، اللذين ينصان على انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة عام 1967م.
مع التطورات الأخيرة في قطاع غزة، برزت أصوات تحاول إعادة إنتاج أفكار قديمة بثوب جديد، تتحدث عن تهجير الفلسطينيين خارج أراضيهم، أو ضم الضفة الغربية لإسرائيل، أو حتى وضع قطاع غزة تحت إدارة دولية، في تجاوز فاضح لكل الأعراف والقوانين الدولية. هذه الطروحات لم تكن غائبة عن المملكة، التي جعلت من قرارات القمة العربية والإسلامية التي استضافتها في نوفمبر 2024م أساسا لموقف عربي موحد يرفض بشكل قاطع أي محاولة لتغيير الوضع الديموغرافي في الأراضي الفلسطينية. فالتاريخ يشهد أن أي محاولات لفرض حلول غير عادلة، مثل اتفاق كامب ديفيد عام 1978م أو صفقة القرن عام 2020م، لم تكن إلا تعميقا للأزمة وتعقيدا للمشهد السياسي.
الرياض لم تكتفِ بإعلان المواقف أو إصدار البيانات، بل تحركت على المستوى الدبلوماسي الدولي لإعادة الزخم إلى القضية الفلسطينية، وهو ما تُرجم في إطلاق التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين، بمشاركة عربية وإسلامية ودولية واسعة، بما في ذلك النرويج والاتحاد الأوروبي. الاجتماع الذي استضافته المملكة في الرياض، بمشاركة نحو 90 دولة ومنظمة دولية، لم يكن مجرد مناسبة بروتوكولية، بل مؤشر على أن الإرادة الدولية لإيجاد حل عادل لا تزال قائمة، وأن العمل متعدد الأطراف، رغم كل ما مر به من تحديات، لا يزال الأداة الأكثر فاعلية لمواجهة السياسات الأحادية التي تحاول فرض الأمر الواقع بالقوة.
التزام المملكة بالقضية الفلسطينية لم يكن يوما محصورا في الجانب السياسي فقط، بل امتد إلى الجوانب الإنسانية، وهو ما بدا واضحا منذ اللحظات الأولى للأزمة في قطاع غزة. منذ اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987م، قدمت المملكة دعما ماليا مستمرا للفلسطينيين، حيث كانت من أكبر المساهمين في ميزانية السلطة الفلسطينية، بمبالغ تجاوزت 6 مليارات دولار منذ تأسيسها عام 1994م. في عام 2023م، قدمت الرياض 50 مليون دولار لدعم وكالة الأونروا، في وقت كانت فيه بعض الدول تقلص مساهماتها.
لم تنتظر المملكة حتى يتفاقم الوضع، بل سارعت بإرسال المساعدات العاجلة عبر جسرين جوي وبحري، وإطلاق حملة تبرعات شعبية تجاوزت 707 ملايين ريال، تعبيرا عن التضامن الشعبي السعودي مع الأشقاء الفلسطينيين. هذه الجهود لم تكن استجابة لحالة طارئة فحسب، بل امتداد لدعم مالي مستمر تقدمه المملكة شهريا للمساهمة في تحسين الوضع الإنساني في غزة، في وقت يحاول البعض تقليص التزاماته أو التهرب من مسؤولياته تجاه القضية.
القضية الفلسطينية ليست الملف الوحيد الذي يشغل الرياض، إذ إن استقرار المنطقة بأكملها يظل محور اهتمامها. عندما استهدفت إسرائيل عدة مواقع في سوريا، كان الموقف السعودي واضحا في إدانة هذه الانتهاكات المتكررة للقوانين الدولية، والتأكيد على ضرورة اضطلاع المجتمع الدولي بمسؤولياته لوقف التصعيد الإسرائيلي الذي يهدد الأمن الإقليمي. منذ اتفاقية فك الاشتباك عام 1974م، ظلت الجبهة السورية مستقرة نسبيا، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تصعيدا متكررا من قبل إسرائيل، مما يهدد بتوسيع رقعة النزاع بشكل يصعب احتواؤه.
على الجانب الآخر، لم تغفل المملكة عن لبنان الذي يمر بواحدة من أسوأ أزماته السياسية والاقتصادية، إذ أكدت وقوفها إلى جانب الشعب اللبناني، وشددت على أهمية تنفيذ الإصلاحات التي تعزز أمنه واستقراره. منذ مؤتمر الطائف عام 1989م، كانت الرياض شريكا رئيسيا في إعادة بناء الدولة اللبنانية، وساهمت في تقديم مساعدات تجاوزت 70 مليار دولار لإعادة الإعمار ودعم الاقتصاد اللبناني. ثقتها في قدرة الرئيس جوزيف عون ورئيس الحكومة نواف سلام على تحقيق هذه الإصلاحات ليست مجرد مجاملة دبلوماسية، بل تعبير عن قناعة بأن لبنان قادر، إذا توافرت الإرادة السياسية، على تجاوز أزماته واستعادة مكانته الطبيعية في المنطقة.
في السودان، حيث تستمر الأزمة منذ شهور، تبذل المملكة جهودا دبلوماسية مكثفة للوصول إلى وقف إطلاق نار دائم، وتهيئة الأجواء لحل سياسي يضمن استقرار البلاد ويحفظ وحدتها وسيادتها، بعيدا عن التدخلات الخارجية التي لا تزيد الأمور إلا تعقيدا. منذ استقلال السودان عام 1956م، مرّت البلاد بانقلابات عسكرية وصراعات داخلية متكررة، لكن المملكة كانت دائما داعمة لاستقراره، حيث استضافت مفاوضات جدة عام 2023 التي سعت لإنهاء الصراع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع. في موازاة هذه الجهود، تستمر المملكة في تقديم المساعدات الإنسانية للشعب السوداني، إدراكا منها لحجم المعاناة التي يعيشها في ظل هذا الوضع.
الرياض تدرك أن التحديات الإقليمية ليست عابرة، وأن التعامل معها لا يمكن أن يكون بردود فعل لحظية، بل برؤية استراتيجية طويلة المدى تجمع بين الدبلوماسية الفاعلة، والمواقف الواضحة، والعمل الإنساني المستمر. في منطقة تتغير فيها الاصطفافات وتتصاعد فيها التوترات، تبقى سياسة المملكة قائمة على المبادئ وليس على الحسابات الضيقة. فأمام مشهد سياسي عالمي متغير، تبقى الثوابت السعودية هي الركيزة الأساسية في التعامل مع الأزمات، حيث لا مجال للتردد أو المواقف الرمادية عندما يتعلق الأمر بالقضايا المصيرية.
mr_alshammeri@
0 تعليق